أيقونة الحرية والإنسانية
رمزية عابر للعصور

20/11/2025 – مؤسسة الإتحاد من أجل العدالة
في سجل الخالدين، تُحفر أسماء قليلة بحبر من نور لا يمحوه الزمن. نيلسون مانديلا ليس مجرد اسم في تاريخ جنوب أفريقيا، بل هو ضمير الإنسانية الحي، ورمز عالمي للنضال من أجل الكرامة، وأيقونة للحرية تتجاوز حدود الجغرافيا والعرق. لم يكن “ماديبا”، كما يُعرف بمحبة، مجرد سياسي أو رئيس دولة، بل كان تجسيداً حياً لقوة الإرادة البشرية في مواجهة أقسى صور الظلم، وبرهاناً على أن التسامح أقوى من الانتقام. يظلّ نيلسون مانديلا واحداً من أكثر الشخصيات التي أثرت في مسار التاريخ الإنساني الحديث، فقد شكّل نموذجاً نادراً للقائد الذي جمع بين الصلابة في المبدأ، والرحمة في الفعل، والقدرة على تحويل المعاناة الطويلة إلى قوة أخلاقية لا تنضب. لم يكن مانديلا مجرد زعيم سياسي دافع عن حقوق شعبه، بل كان صوتاً عالمياً استطاع أن يعبر الحدود واللغات، ليصبح رمزاً للحرية والعدالة والمقاومة السلمية في كل مكان.
شرارة النضال ضد “الأبارتايد“
لم يولد مانديلا رمزاً، بل صاغته الظروف القاسية التي عاشها وطنه. وُلد في عالم يُعرَّف فيه الإنسان بلون بشرته، وترعرع تحت وطأة نظام “الأبارتايد” (الفصل العنصري) البغيض في جنوب أفريقيا. هذا النظام لم يجرد أصحاب البشرة السمراء من حقوقهم السياسية والاقتصادية فحسب، بل سعى لسحق كرامتهم الإنسانية.
منذ شبابه، انخرط مانديلا في النضال، وانضم إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. قاد في البداية أشكالاً من المقاومة السلمية، مستلهماً غاندي، لكن عندما قوبلت المطالب العادلة بالرصاص والقمع الوحشي، أدرك أن النظام لن يفهم إلا لغة القوة التي يفرضها هو، ليشارك في تأسيس الجناح العسكري للحزب.
27 عاماً خلف القضبان المعركة الأطول داخل السجن
جاء الاختبار الأكبر في حياة مانديلا عندما تم اعتقاله وحوكم بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم. في محاكمة ريفونيا الشهيرة عام 1964، وقف مانديلا متحدياً وقال كلمته الخالدة:
“لقد ناضلت ضد هيمنة البيض، وناضلت ضد هيمنة السود. لقد راودني حلم مُثُل مجتمع ديمقراطي حر يعيش فيه الجميع معاً في وئام وتكافؤ للفرص. إنه مُثُل آمل أن أعيش من أجله وأحققه. ولكن إذا تطلب الأمر، فهو مُثُل أنا على استعداد للموت من أجله” .
حُكم عليه بالسجن مدى الحياة. بدأت رحلة الـ 27 عاماً خلف القضبان، قضى معظمها في زنزانة ضيقة في جزيرة روبن آيلاند. كانت تلك السنوات قاسية، لكنها صنعت داخله إنساناً أكثر ثباتاً وحكمة. لم تتبدل مبادئه، ولم يخضع لمحاولات كسر إرادته. على العكس، خرج مانديلا من السجن أكثر قدرة على قيادة شعبه نحو التحرر، بعد أن أصبح رمزاً عالمياً للمقاومة والصمود الأخلاقي.
في السجن، لم يُهزم مانديلا، بل تحول. تحولت زنزانته إلى جامعة، وتحول هو من مقاتل ثوري إلى حكيم وفيلسوف. درس القانون، وتعلم لغة سجانيه (الأفريكانز)، ليفهم عدوه لا ليغلبه، بل ليحاوره في المستقبل. لقد أثبت أنهم يستطيعون سجن جسده، لكنهم لا يستطيعون أبداً سجن فكرته أو كسر إرادته.
نيلسون مانديلا: من المرافعة ضد “قانون الظلم” إلى إرساء “دولة القانون“
في تاريخ الفكر القانوني، يظل الجدل قائماً حول العلاقة بين القانون والعدالة. هل القانون ملزم لمجرد كونه نصاً صادراً عن سلطة حاكمة ( الوضعية القانونية)، أم أنه يستمد شرعيته من مبادئ أخلاقية عليا (القانون الطبيعي)؟
تُعد حياة نيلسون مانديلا ومسيرته النضالية دراسة الحالة الأكثر تجسيداً لهذا الجدل في القرن العشرين. فمانديلا لم يكن مجرد ثائر سياسي، بل كان محامياً بدأ حياته المهنية مؤمناً بسيادة القانون، ليجد نفسه في مواجهة مباشرة مع منظومة قانونية كاملة تجسد “اللاعدالة” المقننة.
المحامي: النضال من داخل المنظومة
في عام 1952، أسس نيلسون مانديلا وأوليفر تامبو أول مكتب محاماة يديره محامون سود في جوهانسبرغ. في تلك الفترة، لم يكن نضالهما مسلحاً، بل كان نضالاً قانونياً بحتاً.
كان المكتب بمثابة خط الدفاع الأول لضحايا قوانين الفصل العنصري (الأبارتايد). تعامل مانديلا يومياً مع التشريعات الجائرة مثل “قانون التصاريح” الذي قيد حركة السود، و”قانون مناطق المجموعات” الذي فرض الفصل السكني القسري.
في هذه المرحلة، كان مانديلا يستخدم القانون كـ “درع”. كان يستخدم الإجراءات القانونية، والثغرات البسيطة في نصوص “الأبارتايد”، لتحدي المنظومة من داخلها. لقد كان يمارس القانون الوضعي إلى أقصى حدوده، محاولاً إيجاد مساحة للعدالة في نظام صُمم لإنكارها.
المتهم: تحدي شرعية القانون
المرحلة الحاسمة في مسيرة مانديلا القانونية كانت تحوله من محامٍ (مدافع) إلى متهم (مُحاكَم). شكلت “محاكمة الخيانة” (1956) و”محاكمة ريفونيا” (1964) نقطة تحول فكرية وقانونية.
هنا، انتقل مانديلا من استخدام القانون الوضعي إلى تحدي شرعيته الأساسية. في مرافعته الشهيرة من قفص الاتهام عام 1964، لم يكن مانديلا يدافع عن براءته بموجب قوانين “الأبارتايد”، بل كان يهاجم شرعية تلك القوانين ذاتها.
لقد كانت مرافعته تجسيداً لنظرية “القانون الطبيعي”، حيث جادل بأن القوانين التي تنتهك الكرامة الإنسانية وتؤسس للتمييز العنصري هي قوانين باطلة أخلاقياً، وبالتالي غير ملزمة قانوناً. قال بوضوح:
“لقد كرست حياتي لهذا النضال… لقد ناضلت ضد هيمنة البيض، وناضلت ضد هيمنة السود… إنه مُثُل آمل أن أعيش من أجله وأحققه. ولكن إذا تطلب الأمر، فهو مُثُل أنا على استعداد للموت من أجله”.
لم تكن هذه مرافعة قانونية تقليدية، بل كانت إعلاناً سياسياً وقانونياً بأن النظام القضائي الذي يحاكمه يفتقر إلى المشروعية لأنه لا يمثل إرادة الشعب، بل يكرس قهر الأغلبية.
المُشرّع: بناء الإرث الدستوري
بعد 27 عاماً من السجن، خرج مانديلا ليواجه التحدي القانوني الأكبر. تفكيك الترسانة القانونية للفصل العنصري، وبناء منظومة قانونية جديدة. لم يسع مانديلا للانتقام، وهو ما كان سيقود البلاد إلى حرب أهلية، بل سعى إلى “العدالة التصالحية”. تجسد هذا في مسارين قانونيين متوازيين:
- العدالة الانتقالية: كانت “لجنة الحقيقة والمصالحة” ابتكاراً قانونياً فريداً. لم تكن محكمة جنائية تقليدية (مثل نورمبرغ)، بل آلية فضلت الحقيقة على العقاب. سمحت لمرتكبي الانتهاكات بالاعتراف بجرائمهم مقابل العفو المشروط. كان الأساس القانوني هنا هو أن الاعتراف بالحقيقة هو خطوة ضرورية للمصالحة الوطنية، وأن العدالة لا تعني بالضرورة الانتقام، بل تعني بناء مستقبل مشترك.
- التأسيس الدستوري: الإرث القانوني الأعظم لمانديلا هو دستور جنوب أفريقيا لعام 1996. هذا الدستور يُعد اليوم واحداً من أكثر الدساتير تقدماً في العالم. كرئيس، أشرف مانديلا على صياغته وترسيخه. لم يكتفِ الدستور بضمان الحقوق السياسية (مثل التصويت)، بل كرس “الحقوق الاجتماعية والاقتصادية” (مثل الحق في السكن، والرعاية الصحية، والتعليم) كحقوق دستورية ملزمة قضائياً. الأهم من ذلك، أنه أسس لدولة القانون، التي يخضع لها الجميع، بما في ذلك الحكومة، وأنشأ محكمة دستورية قوية لضمان احترام هذه المبادئ.
من “خارج على القانون” إلى “صانع القانون“
يمثل نيلسون مانديلا رحلة كاملة للمفهوم القانوني. لقد بدأ كمحامٍ يحترم القانون، ثم أصبح خارجاً على القانون في نظر نظام جائر، ليتحول في النهاية إلى صانع القانون الذي أعاد تعريف معنى العدالة لبلاده. إن إرثه القانوني ليس مجرد نصوص في دستور جنوب أفريقيا، بل هو برهان عملي على أن القانون يجب أن يكون خادماً للعدالة والكرامة الإنسانية، وإلا فإنه يفقد سبب وجوده.
من سجين سياسي إلى رئيس يوحد أمة
بعد خروجه عام 1990، قاد مانديلا شعبه في مرحلة انتقالية صعبة انتهت بإسقاط نظام الأبارتهايد وإقامة أول انتخابات ديمقراطية عام 1994، وأصبح مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا في أول انتخابات ديمقراطية حقيقية تشهدها البلاد. لم تكن رئاسته فترة حكم، بل تميّزت فترة حكمه بالتسامح والمصالحة وتأسيس أسس دولة المواطنة، رافضاً الانتقام رغم ما لحق به وبشعبه من ظلم طويل. وقد استطاع تحويل بلاده من ساحة صراع إلى نموذج عالمي في العدالة الانتقالية.
القدوة العالمية والإرث الخالد
ما يجعل مانديلا “رمزاً عابراً للعصور” ليس فقط نضاله ضد الظلم، بل سلوكه بعد الانتصار. لقد أصبح قدوة عالمية ليس فقط للمضطهدين الباحثين عن الحرية، بل للقادة في كل مكان. أثبت أن التسامح ليس ضعفاً، بل هو أسمى درجات القوة. حيث لم يتمسك بالسلطة، بل خدم لفترة رئاسية واحدة، مفسحاً المجال لغيره، ومؤسساً لدولة ديمقراطية حديثة. كرس حياته للإنسانية حتى بعد تقاعده، لم يسترح، بل كرس حياته لمكافحة الفقر ومرض الإيدز والدفاع عن حقوق الأطفال عبر مؤسسته.
لم يكن نيلسون مانديلا قديساً، وهو أول من رفض هذا الوصف، بل كان إنساناً واجه خيارات مستحيلة واختار أصعبها. قصته هي درس في أن السجن الحقيقي هو سجن الكراهية والحقد، وأن الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على التسامح. سيبقى “ماديبا” حياً في ذاكرة الإنسانية، ليس كبطل من جنوب أفريقيا، بل كبوصلة أخلاقية للعالم بأسره.
لم يتوقف تأثير مانديلا عند حدود جنوب إفريقيا، بل أصبح قدوة في العالم أجمع. صموده، إنسانيته، تواضعه، ورؤيته العميقة في التعامل مع الخصوم جعلته رمزاً خالداً، يتكرر ذكره كلما تحدّث العالم عن الحرية وحقوق الإنسان. قال عنه العالم ما اعتبر نبوءة خالدة: “ قد يرحل الجسد، لكن الأفكار التي حملها مانديلا ستظل تنبض في ضمير الإنسانية”.
يمثل نيلسون مانديلا نموذجاً يُحتذى لكل الشعوب التي تبحث عن الحرية، ولكل إنسان يؤمن بأن العدالة قد تتأخر لكنها لا تموت. فمسيرته تؤكد أن التضحية ليست غاية بحد ذاتها، بل طريق نحو مستقبل أفضل، وأن العظمة الحقيقية تكمن في أن يظل الإنسان وفيًا لقيمه مهما كانت التضحيات.
انتهى